الخرطوم- سودانية 24
على نفس خطى المواكب السابقة التي ظلت تدعو لها تنسيقيات لجان مقاومة ولاية الخرطوم، احتشد الآلاف من المتظاهرين، صباح أمس (الخميس)، في محطة باشدار بالديوم الشرقية معبرين عن رفضهم لانقلاب (25) أكتوبر والاتفاق الإطاري الموقع بين المكون العسكري وبعض القوى السياسية والمدنية.
المتظاهرون الذين تجمعوا للاحتجاج أكدوا رفضهم القاطع لقبول أي تسوية سياسية، واصفين الاتفاق الإطاري الأخير بأنه يعطي قادة العسكر الشرعية ويطيل أمد الانقلاب، ويحد من تحقيق آمالهم وطموحاتهم في الحكم المدني والقصاص للشهداء.
كان مشهد تجمع الآلاف وتحركهم في موكب نحو القصر الجمهوري الذي حدد نقطة نهائية لالتقاء المواكب، دلالة واضحة كذبت المراهنين على أن التسوية ستؤدي إلى خفوت صوت الشارع وانحسار الاحتجاجات، بل بالعكس تماماً، بدأ المشاركون في المليونية أكثر إصراراً على تحقيق مطالبهم ومواصلة طريق المقاومة والخلاص بالأدوات التي اختاروها.
رفض التسوية والشعارات المناوئة لقوى الحرية والتغيير، كانت العامل المشترك الأبرز في هتافات ولافتات المحتجين أمس، الذين ارتسمت على ملامحهم علامات الغضب، وهم يرددون شعارات مثل “بكم بكم بكم قحاتة باعوا الدم، ما بنرجع ماشين قدام ما بنرجع تسوية إعدام… وغيرها”.
كالمعتاد تقدمت رايات مقاومة الأحياء والأجسام الثورية مثل “غاضبون بلا حدود” تقدمت الموكب، وبعزم كان يمضي المتظاهرون ذوو الأجسام النحيلة والأعمار المتقاربة نحو غايتهم المحددة بالقصر الجمهوري، كان بعضهم يضع المتاريس ويشعل الإطارات حتى يعيق أي هجمات مباغتة من قوات الشرطة والأجهزة الأمنية الأخرى، أغلبهم توقف في رحلة الذهاب أمام مستشفى الجودة وردد مع البقية الهتاف الشهير “شكراً للأطباء “شكراً شكراً جيشنا الأبيض” قبل أن يواصلوا المسير شمالاً.
عند محيط موقف “شروني” تصدت قوات الشرطة للمتظاهرين، بالمدرعات وعربات المياه والغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية والرصاص المطاطي، ويبدو أنها نجحت في بادئ الأمر في تفريق الموكب وتشتيته، حيث لاذ الكثيرون بالشوارع الجانبية قبل أن يعودوا بعد ترتيب أنفسهم ويجبروا قوات الشرطة على التراجع مرة أخرى خلف “الموقف”.
بعد محاولات عديدة من المتظاهرين للعبور إلى شارع القصر ومنطقة وسط الخرطوم، استطاعت الشرطة إجبار الموكب على التراجع بعد استخدام العنف المفرط والتطويق المستمر بالمدرعات والرش بعربات المياه، والإطلاق الكثيف للغاز المسيل للدموع، كان الجو ملبداً بغيوم الغازات المسيلة للدموع لدرجة أنه لا يستطيع أي شخص المرور بالمنطقة من شروني وحتى محطة الغالي جنوباً دون وضع كمامات تنقية الهواء.
كان لافتاً استخدام القنابل الصوتية بصورة كثيفة في مليونية أمس (الخميس)، كما لوحظ استمرار القيادة المتهورة للمدرعات الشرطية وسط المتظاهرين ومحاولات الدهس المتعمد لهم، ولعل ذلك حدث بالفعل، إذ رصدت المتابعات الإصابة بحالة “دهس” خطيرة نقل على إثرها متظاهر إلى مستشفى الجودة.
كذلك استخدمت قوات الشرطة الرصاص المطاطي والحجارة والزجاج المقذوف عبر سلاح الأوبلن. ويشار إلى أن الإصابات بشكل عام كانت أكثر من الموكب الماضي، بعضها تلقى العلاجات والبقية تم تحويلها إلى المشافي القريبة.
في إحصائية لها، قالت رابطة الأطباء الاشتراكيين “راش”، إن سلطات “الانقلاب والتسوية” واجهت مليونية (8) ديسمبر المتجهة نحو القصر، بالعنف المفرط باستخدام الرصاص والإصابة المباشرة بعلبة البمبان، والإصابة بالزجاج المقذوف عبر الأوبلن، والقنابل الصوتية والدهس بالمركبات، مما أدى إلى وقوع (49) من الإصابات المتفاوتة – لا تتضمن الإصابات التي يتم التعامل معها في الميدان – منها (3) إصابات بالرصاص المطاطي، و(7) إصابات بالقنبلة الصوتية “ألم في الأذن وتدهور السمع”، و(4) إصابات دهس منها إصابة بكسر مفتوح في الساق الأيمن.
وتضمن تقرير “راش”، وقوع (5) حالات اختناق بالغاز المسيل للدموع، و(4) إصابات بالطوب والزجاج عبر الأوبلن، و(26) إصابة مباشرة بعلبة البمبان في أماكن متفرقة من الجسم.
ويبدو أن هذا القمع المفرط عزز شكوك المتظاهرين تجاه الحل السياسي وأنه لن يعزز حقوقهم في التظاهر والتعبير السلمي، بعضهم كان غاضباً جداً وآخرون قابلوا الأمر بالسخرية والاستخفاف ورددوا عبارات على شاكلة “بمبان التسوية حار، والقمع في زمن التسوية”.
في نهاية المليونية وعند العودة إلى نقطة مستشفى الجودة، تحلق المتظاهرون في حلقات نقاش وجلسات جانبية كان الاتفاق الإطاري أساس الحديث فيها ويدور حول مدى اتساقه مع أهداف الثورة وما آثاره في الحراك وكيفية مجابهته.
وفي السياق، وجد تصريح متداول في الوسائط ومنقول عن طريق موقع راديو “دبنقا” للأمين السياسي بحزب الأمة “محمد المهدي”، استهجاناً وسط المشاركين في مليونية اليوم، حيث كشف “المهدي” ﻋن ﺗﺸﻜﻴﻞ ﻟﺠﻨﺔ ﻣﺸﺘﺮﻛﺔ ﻟﺮﺻﺪ ﺍﻟﺘﺠﺎﻭﺯﺍﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪﺙ ﺧﻼﻝ ﺍﻟﻤﻈﺎﻫﺮﺍﺕ ﻭﺗﺤﺪﻳﺪ ﻣﺴﺎﺭﺍﺗﻬﺎ، ﻭﺫﻟﻚ ﻓﻲ ﺇﻃﺎﺭ ﺇﺟﺮﺍﺀﺍﺕ ﺗﻬﻴﺌﺔ ﺍﻟﻤﻨﺎﺥ، وقال ﺇﻥ ﺍﻟﻠﺠﺎﻥ ﺍﻟﻤﺸﺘﺮﻛﺔ ﺳﺘﻜﻮّﻥ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﻮﻯ ﺍﻟﻤﻮﻗﻌﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻻﺗﻔﺎﻕ ﺍﻹﻃﺎﺭﻱ، ﻭﺍﻷﻃﺒﺎﺀ، ﻭ”ﻣﺤﺎﻣﻮ ﺍﻟﻄﻮﺍﺭﺉ”، ﻭﺍﻟﻘﻮﺍﺕ ﺍﻟﻨﻈﺎﻣﻴﺔ، ﻭﻭﻛﻼﺀ ﺍﻟﻨﻴﺎﺑﺔ.
ﻭﺩﻋﺎ ﻟﺠﺎﻥ ﺍﻟﻤﻘﺎﻭﻣﺔ للالتزام ﺑﻤﺴﺎﺭﺍﺗﻬﺎ ﺍﻟﻤﻌﻠﻨﺔ ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﺗﺘﺠﺎﻭﺯﻫﺎ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﻘﺎﺭ ﺍﻟﺴﻴﺎﺩﻳﺔ ﻭﺍﻟﻤﻘﺮﺍﺕ ﺫﺍﺕ ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺍﻷﻣﻨﻴﺔ ﻭﻣﻤﺘﻠﻜﺎﺕ ﺍﻟﻤﻮﺍﻃﻨﻴﻦ، ﺑﺠﺎﻧﺐ الالتزام ﺑﺎﻟﺘﻈﺎﻫﺮ ﺍﻟﺴﻠﻤﻲ ﺍﻟﻤﻌﻬﻮﺩ، ﻛﻤﺎ ﺩﻋﺎ ﺍﻟﻤﺘﻈﺎﻫﺮﻳﻦ ﻟﺘﺠﻨﺐ ﺍﻟﺘﻌﺪﻱ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﺟﻬﺰﺓ ﺍﻟﺸﺮﻃﻴﺔ ﺃﻭ ﺍﺳﺘﻔﺰﺍﺯﻫﺎ، ﻭﺗﺴﺎﺀﻝ ﺣﻮﻝ ﻣﻐﺰى ﺗﺤﺪﻳﺪ ﺍﻟﻘﺼﺮ ﺍﻟﺠﻤﻬﻮﺭﻱ ﻭﺟﻬﺔ ﻟﻠﻤﻈﺎﻫﺮﺍﺕ ﻓﻲ ﻇﻞ ﺍﻟﺘﻮﺻﻞ ﺇﻟﻰ ﺍﺗﻔﺎﻕ ﺇﻃﺎﺭﻱ ﻳﺤﻘﻖ ﻣﻄﺎﻟﺐ ﺍﻟﻤﺘﻈﺎﻫﺮﻳﻦ، ﻣﺒﻴﻨﺎً ﺃﻥ ﺍﻟﻘﺼﺮ ﺍﻟﺠﻤﻬﻮﺭﻱ ﺃﺻﺒﺢ ﺑﻤﻮﺟﺐ ﺍﻻﺗﻔﺎﻕ ﻣﻠﻜﺎً ﻟﻠﺸﻌﺐ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻧﻲ ﺗﺪﻳﺮﻩ ﻋﻨﺎﺻﺮ ﻣﺪﻧﻴﺔ ﺗﻨﺘﻤﻲ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺜﻮﺭﺓ.
بالمقابل، منتقدو هذا التصريح قالوا إنه تماهٍ مع خطاب السلطة القائمة وإشارة خطيرة لحصر وتحديد أماكن التظاهر، وتضييق متوقع على الحريات وشرعنة العنف، واستند بعضهم عليه لتمرير انتقادات حادة لقوى الحرية والتغيير.
ويذكر أن مدينة أمدرمان هي الأخرى شهدت احتجاجات مشابهة قمعتها الشرطة التي أغلقت كذلك في وقت متأخر من نهار أمس جسر (النيل الأبيض) ليلحق بـ(كبري المك نمر) وكل ذلك للحد من وصول المتظاهرين إلى محيط القصر الجمهوري ومنطقة وسط الخرطوم.
مليونية (8) ديسمبر هي الثانية من نوعها التي خرجت رفضاً للحكم العسكري والتوقيع على الاتفاق الإطاري، منذ الإثنين الماضي، ويأتي ذلك في وقت تستعد فيه لجان المقاومة لإحياء ذكرى انطلاق شرارة الثورة في عطبرة يوم (19) ديسمبر 2018م، عبر تنظيم احتجاجات ضخمة قد تفتح باباً واسعاً من التكهنات عن مدى صمود التسوية من جانب، وحجم العنف والقمع المتوقع من جانب آخر، وهو بالتأكيد ما ستكشف عنه الأيام المقبلة.