أجرى المقابلة- محمد الأقرع
يبدو أن قرار تجميد مجلس نظارات البجا، أعاد تسليط الضوء على قضايا شرق السودان ومستقبلها والحراك السياسي بالإقليم، في ظل تداعي أحد الواجهات التي تصدَّرت المشهد طيلة الفترة الماضية، كما أنه فتح باب التساؤلات عن احتمالية نشوء تيارات جديدة وقدرتها على القيادة الجماهيرية والرؤى التي ستتبناها، بالإضافة إلى أسئلة أخرى متصلة بارتباطات التجميد وبروز مشاريع ضخمة على ساحل البحر الأحمر ـ الميناء الجديد-، واقتراب إنجاز تسوية سياسية عامة بالبلاد.
“سودانية 24” أجرت مقابلة مع القيادي بالحرية والتغيير بالبحر الأحمر “مجدي عبد القيوم” وعضو المكتب السياسي لحركة “حق” الذي كان قريباً من ملفات شرق السودان طيلة الفترة الانتقالية السابقة، وكانت الحصيلة التالية:
ـ كيف تقرأ التصريحات المتضاربة بين قيادات مجلس البجا وإعلان تجميده؟
طبيعية ومتوقعة، بل أعتقد أنها خطوة تأخرت نوعاً ما، وأقرأُها مع التطورات في المشهد السياسي العام، فمجلس نظارات البجا وعلى الرغم من أنه يرفع لافتة قضايا شرق السودان إلا أن الشواهد في مسار حركته منذ النشأة توحي بأنه أصلاً تم استيلادُه بواسطة عناصر مرتبطة بالمكون العسكري لخدمة أهداف معلومة، ووجدت فيه عناصر النظام البائد من خارجه ضالتها فمدت معه جسوراً عبر المحسوبين على النظام المباد، لذلك بدا الموقف تجاهه من أبناء البجا ملتبساً ومن شباب الثورة البجاوي رافضاً، خاصة بعد أن أسفر عن الوجه السياسي واتخذ موقفاً موالياً للمكون العسكري في صراعه مع المكون المدني، بل شكل رأس الحربة للانقلاب عندما رفع شعار المطالبة بحلِّ الحكومة وعزل رئيس الوزراء آنذاك الدكتور حمدوك.. فلا يمكن لأي مبتدئ سياسي الاعتقادُ بأن تلك المطالب والتي تُناقض تماماً أهداف الثورة وشعارها الأشهر مدنية الدولة، تمثل شعب البجا الذي هو جزء أصيل من ثورة ديسمبر الظافرة، ولعل موضوع الميناء نفسضه كان المَلمَح الأبرز لبداية تصدع مجلس النظارات، عندما تقرر إلغاء إغلاق الميناء وصدرت توجيهات برفع التروس بُعيدَ انقلاب ٢٥ أكتوبر مباشرة، الأمر الذي اعتبرته المجموعة التي كانت تطالب بإلغاء مسار الشرق بأنه سابق لأوانه وفات عليها أن قضية المسار قميص عثمان ليس إلا عند المجموعة المُتنفذة في المجلس، أو بالأحرى عند مَن عملوا للترويج لمجلس النظارات.
صحيحٌ أن هناك من كان ينطلق من رؤية صادقة متعلقة بمظالمَ الشرق من بين أعضاء المجلس ولكنك إذا أمعنت النظر في تركيبة المجلس كشخوص لأدركت أن (قضايا الظُّلَاماتِ التاريخية)، آخر ما يدخل في دائرة اهتماماتهم -إن دخل أصلاً- لذلك بدأ المجلس يحمل بذرة فنائه داخله.
من جانب آخر، لا يمكن لأحد الادِّعاء بأنه يمثل البجا في ظل مناخ ثوريٍّ كان البجا جزءاً أصيلاً فيه ويسلك مسلكاً معادياً لأهداف الثورة والتي كانت جريمةَ ٢٩ يناير ٢٠٠٥ التي ارتقى فيها نفرٌ عزيزٌ من أبناء البجا واحدةً من أهم روافدها التي صبت في مجرى نهر الثورة السودانية، ولعل هذا (موقف شباب البجا) كان العامل الأبرز في نهاية حقبة مجلس النظارات.
ـ برأيك هل ثمة ارتباط بين الخلافات الدائرة الآن والمشاريع المزمع قيامها (الميناء الحديد) في البحر الأحمر؟
ربما كانت هذه الجزئية المنطلقة من الموقف السياسي من أسباب الخلاف، فمجلس النظارات على الرغم من أنه يرفع لافتة تتبنى قضايا المظالم التاريخية لشرق السودان، إلا أنه ظل يركز على السياسي بل في تقديري ومن خلال المتابعة أنه تحوّل لمنصةٍ للتعبير عن مواقف سياسية وهذا نفسه سبب عزوف قطاع الشباب البجاوي عنه وأغلب مثقفي وأكاديمي البجا المرموقين، المجلس مثلاً كان أولى المنصات التي إنطلق منها المكون العسكري في التحضير لانقلابه على الحكومة المدنية وتعطيل مسار الانتقال، فلم نر المجلس قد أولى اهتماماً لقضايا التنمية المختلفة، بل ارتكب الخطيئة الكبرى عندما تبنى إغلاق ميناء بورتسودان والطريق القومي الحيوي.
في تقديري أن إغلاق الميناء شكل مركز الطرد من حول مجلس النظارات، بل سقطة كبرى أبعدت عنه كل وطني غيور ليس من أبناء البجا فقط بل كل المتعاطفين مع قضايا البجا من السودانيين، سواء في الإقليم أو خارجه، فلا يمكن لأحد أن يتصور أن يتحول ميناء السودان وشريانه على العالم إلى أداة في الصراع السياسي، فهو الرئة التي تتنفس بها البلاد، وقد تسبب إغلاقُها ليس في التدهور الاقتصادي الذي ضرب المدينة ولا تزال تعاني منه حتى الآن فحسب، بل أخرجها من دائرة الإنتاج مستقبلاً. لقد أدى إغلاق الميناء إلى تداعيات كارثية أثرت على كلِّ البلاد، إذاً كيف يمكن أن تتقبل فكرة منع وصول الدواء والغذاء للمواطنين كي تحقق أغراضاً سياسية.
صحيح أن المجلس سمح آنذاك بتمرير حاويات الدواء، ولكن ذلك تمَّ بشقِّ الأنفس ومماحكات وتعقيدات، ولعل وجودي آنذاك ضمن مجموعة إسناد السيد وزير الصحة حينها الدكتور عمر النجيب، أتاح لي التعرف عن قرب على تلك التعقيدات، فقد تابعت موضوع تخليص وترحيل حاويات الأدوية مع المخلص والمرحل ومندوبه الصديق ميسرة، وكنا نعاني مُرَّ المعاناة في استصدار التصاريح للعاملين في مختلف القطاعات ذات الصلة بعملية التخليص والترحيل، وكان للصديق كرار عسكر عضو مجلس نظارات البجا دور مُقدَّر في تذليل كثير من الصعاب.
حاولنا كذلك مع مندوب البنك الزراعي الحصول على موافقة المجلس لتخليص وترحيل شحنة باخرتيْ قمح من المعونة الأمريكية، ولكن المجلس رفض بشكل قاطع السماح بذلك.
أما فيما يتصل بالموانئ الجديدة، هناك عدد كبير من أبناء البجا الخبراء المتخصصين في إدارة الموانئ ولهم كتابات رصينة في هذا الموضوع، وهم يتناولون إشكاليات ميناء بورتسودان والحلول أو مشاريع الموانئ المزمع إنشاؤها على البحر الأحمر برؤية مهنية علمية بعيداً عن الموقف السياسي، ولعل أغلب هؤلاء بطبيعة الحال لا صلة لهم تنظيمياً بأطراف الصراع. فمجموعة مجلس النظارات لها منطلاقاتُها، صحيح أننا لا يمكن أن ندَّعي عدم وجود أيِّ صلة لها بقضايا البجا الحقيقية، لكنها قطعاً ليست من بين أسباب الخلاف لأن الصراع هنا بالوكالة، وربما كان من إفرازات الصراع المكتوم بين الجيش والدعم السريع.
ـ ما مستقبل الانقسامات وهل يستطيع تيار (ابو آمنة وأوبشار) فرض واقع جديد تُطبقُ من خلاله بنود مؤتمر سنكات؟
صحيح أن هذا التيار يُشكلُ حضوراً مُقدّراً في صناعة المشهد، ولكن السؤال هل مخرجات مؤتمر سنكات أو حتى مجلس النظارات تجد القبول من القاعدة الشعبية للبجا أم أنه يعبر عن مصالح المجموعات التي أمسكت بقضايا شرق السودان وهي قضايا حقيقية بلا شك، وجزء من أزمة انعدام التنمية المتوازنة التي تعاني منها كل أقاليم السودان مع الفوارق النسبية بالطبع.
ـ هل بوادر الخلافات ستفتح الباب لتنفيذ اتفاقية مسار الشرق، أم في أي سياق ستُحلُّ قضايا شرق السودان؟
هناك صعوبة حقيقية في ملف مسار الشرق سواءً الإنفاذ أو الإلغاء، فسياسياً لا يمكن إلغاء المسار إلا حال تمّت مراجعة اتفاقية جوبا برمتها، وهو مطلب كثير من قوى الثورة، وكذلك لا يمكن إنفاذ المسار في ظل الرفض القاطع والواسع من قبل أحد طرفي البجا، خاصة وأن هناك معوقات وتحفظات حقيقية. لا أعتقد أن خلافات مجلس النظارات لها تأثير على مسار الشرق.
أما حلُّ قضية شرق السودان مرهون بمؤتمر القضايا، وربما أيضاً بمؤتمر إقليمي للدول المطلة على البحر الأحمر، فهنا يكون حاضراً بقوة الملف الأمني وهو يؤدي إلى تدخل كثير من الدول المَعنية بالشرق، ولن تُحل قضية الشرق بعيداً عن هذا التداخل، ولا بدَّ من مخاطبة مصالح ومخاوف هذه الدول، لا يمكن أن تتحدث عن استقرار شرق السودان بعيداً عن تفاهمات مع إريتريا ومِصر دعك عن كلِّ الدول المَعنية بأمن البحر الأحمر سيما دول الإقليم، هذا إلى جانب فضِّ النزاع بين مكوني البجا الأساسيين، وهو أمر ممكن رغم ما يبدو لمن ينظر للمشهد من الخارج أنه غاية التعقيد، أقول هذا بحكم تجربتي عبر مبادرة جامعة الخرطوم بِمَعية مهتمين بملف الشرق مثل البروف منتصر الطيب والدكتور الشفيع خضر والباشمهندس معتز شمس الدين، والحوارات المكثفة التي استمرت لما يقارب الستة أشهر، وشارك فيها قيادات نافذة من مجلس النظارات مثل الصديق الأستاذ طه فكي وسيد علي ابو آمنة والأستاذ أحمد موسى عمر المستشار القانوني للمجلس، ومؤخراً السياسي الضليع أستاذنا عبد الله كنه، هذه الحوارات المعمقة تناولت القضية بأوجهها كافة، وأبدت فيها كل الأطراف مسؤولية وتعاملت بإيجابية، كذلك من الجانب الآخر دارت حوارات مع الأستاذ الأمين داوود وبقية رفاقه في الجبهة الشعبية قبل وبعد الخلاف الشهير بين قيادتها.
ـ إلى أين سيمضي الناظر “تِرك” عقب إعلان التجميد.. أو ما المستقبل السياسي الذي ينتظره؟
بالنسبة لـ”ترك”، مجلس النظارات استنفذ أغراضه تبعاً لتطورات المشهد السياسي وبالتالي أعتقد أنه سيستخدم سلطة الإدارة الأهلية باعتبار أنه الناظر لحسم التفلتات أو ما يراه هو تفلتات، وفي تقديري ومن خلال التصاقي بمجتمع البجا فتلك السلطة لها تأثير كبير جداً مع أن شباب البجا وهو القطاع الأعرض تجاوز هذه السلطة تماماً وهذا طبيعيٌّ خاصة بعد ثورة ديسمبر والتي قطعاً شباب البجا مكون أصيل من مكونات الثورة.
ـ هاجمت قيادات المجلس ببورتسودان “حميدتي”.. ما هي الدوافع باعتقادك؟
معلومٌ أن ملف شرق السودان بيد “حميدتي” وقد كان شاهداً أو يمكن أن تقول راعياً لتوقيع القلد إبان النزاعات الإثنية المعلومة التي شهدتها الولايات بين عدد من مكوناتها، إضافة لرعايته للجنة المشرفة على فضِّ الخلاف حول مسار الشرق باتفاقية جوبا، ولعل عدم الرضا عن الحلول التي أشرف على انفاذها في كل هذه النزاعات هي السبب الأساسي في الموقف من “حميدتي”، ففي القضية التي انتهت بالقلد بين مكونيْ البجا، تحفظ طرفا النزاع على المخرجات، وفي قضية مسار الشرق يطالب مجلس النظارات بإلغاء المسار، في حين أن اللجنة التي تُشرف على الملف ويترأسها “حميدتي”، أعلنت عن (تعليق) المسار. والتوصل إلى تعليق المسار نفسه -كما ذكرت آنفا الذي اتخذته اللجنة التي يترأسها حميدتي- تم بعد حوار مطوّل استضافه المستشار القانوني الصديق أحمد موسى عمر في منزله العامر. فحتى التعليق لم يأت هكذا ضربة لازب بل أن المفردة نفسها التي تصدَّرت القرار (التعليق) كانت اختياراً دقيقاً استخدم فيه أستاذنا “عبد الله كنه” خبرته كمعلم مع اللغة العربية.
عموماً، هذه كانت قضايا جوهرية عند مجلس النظارات لذلك هاجمت قياداته “حميدتي”.