الخرطوم: محمد الأقرع
الوسائط التي توثق للتاريخ الإنساني ومسيرة الأحداث الكونية كثيرة منها ما يُدوّن في الكتب من خلال الباحثين المختصين، ومنها ما هو في شكل فلكوري وآخر يتداول بين الناس شفاهةً. ومن التاريخ الذي يتداول بين الناس شفاهةً الأغنية والنشيد. ولعل المتتبع أو المستمع لكثير من الأغنيات في الحيز السوداني مثلاً، سيكتشف أنها طالما احتوت على ذكر أحداث وروايات دارت في الماضي “صراعات القبائل مع بعضها بعضاً، ذكر أبطال ومخلصين وخونة، الكفاح ضد المستعمر، لحظات الاستقلال، الانكسارات، الثورات… ألخ”، لذلك تعتبر الأغنية مُوثَّقَاً تاريخياً أساسياً، بيد أن الكثير من المتابعين يشكّكون في أمانة السرد التاريخي لديها ويعتبرونها نتاجاً لعملية تفاعل شاعر ينظر للأحداث بزاويته الخاصة دون وصف الأحداث كما هي، ومع عدم مراعاة الرصد الدقيق.
المشكُكون في الأمانة التاريخية للأغنيات يستدلون بالعديد من النماذج والتبريرات التي تدعم موقفهم، ومنها على سبيل المثال نشيد الاستقلال الذي تغنى به الفنان الراحل محمد وردي الذي يقول فيه متحدثاً عن معركة كرري:
“كرري تحدثُ عن رجال كالأسود الضارية
خاضوا اللهيب وشتتوا كتل الغزاة الباغية
والنهر يطفح بالدماء القانية
ما لان فرسان لنا بل فر جمع الطاغية…”
علماً بأن الوقائع التاريخية تتناقض مع ما ذهب إليه الشاعر، لأن الهزيمة والفرار لم يكونا (لجمع الطاغية) –الإنجليز- كما ذكر النشيد، وإنما كان للقوات المهدية.
يقول الصحفي والمتهم بالآداب والفنون القذافي يوسف، إن الشاعر أصلاً مُوثِّق غير مؤتمن لأنه يكتب وفق أغراض محدّدة وبدوافعَ التعبئة والتمجيد، منطلقاً من موقف نفسي محكوم بالانتماء الثقافي والسياسي وليس كالمُوثّق الأكاديمي الذي يعكس الأحداث بحقائقها المجرّدة من أي تحيزات أو تلفيق.
بالمقابل، الجانب الآخر الذي يقر بأمانة الأغنيات في التوثيق التاريخي، يوضح أنها تقدم الأحداث بشكل محبب وبسيط بعيداً عن الكتابات المُعسّمة، بالإضافة إلى أن الحدث المثار في الأغنية يضمن صلاحية التداول بخلود الفنون التي تتناقل بين الأجيال دون الوقوع في كمائن النسيان، ويستدلون من جانبهم بالعديد أيضاً من الأمثال والأحداث التي وثقتها الأغنية السودانية كـ”بطولة ود حبوبة، والأكتوبريات، والاستقلال نفسه”.
ويشير المقرون بأمانة التوثيق إلى أن الأغنية التي ترصد حدثاً عاصرت أزمنة وقوعه هي الأكثر صدقاً خاصة إذا راجت في نفس المجتمعات التي عايشت الحدث وتدري الحقائق، وباعتبار أنهم لا يتفاعلون مع الأغنية إذا احتوت على أكاذيب، ويعتقدون أنه حتى إذا تقبلت تلك المجتمعات الأغنية مع وجود عِلات تنافي الوقائع، فذاك فتح تاريخي آخر يجتهد فيه المنقّبون حول الأسباب التي أدت إلى ذلك القبول، مشيرين إلى أن سؤال التاريخ تعدى الإجابة عن (ماذا حدث؟) المتعلقة بذكر الأخبار والوقائع، إلى الإجابة على (لماذا حدث؟) المتبصر في الأسباب والدوافع.
وبحسب هؤلاء، فإن الأغنية التي تحكي عن حدث تاريخي سابق وقد صدرت في أزمنة لاحقة، يمكن أن تعتريها بعض المزايدات لكنهم يرون أنها خيانة تتم لأغراض شريفة، مؤكدين أنها لا تُوثِّق للأحداث السابقة بقدر ما تُوثِّق للحظة صدورها والمجتمع الذي قيلت فيه.
التوثيق الغنائي ليس مقصوراً في رصد وعكس الأحداث السياسية فقط، ولكن من خلال تفكيك الأغنية يمكن أن تقيس الحالة النفسية التي كان يعيشها المجتمع لحظة ميلادها، باعتبارها محمولاً ثقافياً يختزل في دواخله الآمال والألم وسقف الطموح والتحديات على كل المستويات، كذلك من خلال تفكيك الأغنية يمكن أن تكتشف مدى العاطفة المسموح به في المجتمع الذي قيلت فيه، أكبر الإشكاليات التي تواجه المجتمع والقضايا التي تشغله، فالأغنية هي مرآة المجتمع.
يذهب بعض النقاد إلى أبعد من ذلك، إذ يرون أنها تُوثِّق للبيئة وحركة المجتمع عبر الإيقاعات التي تُقدَّم من خلالها، ويقولون إذا كنا نعيش الآن في عصر السرعة سنجد أغلب الإيقاعات التي تُؤدَى من خلالها أغنيات خفيفة ذات (رتم) سريع، وكذلك إذا رجعنا بالبحث في الأغنيات ذات المقدمات الموسيقية الطويلة سنكتشف أنها قيلت في زمن بطيئ الحركة المجتمعية.
في السياق –أيضاً- تعتبر الأغنية المُوثِّق الأكثر أمانة في عكس القيم السائدة في المجتمع سواء كان سلباً أو إيجاباً، فضلاً عن إبراز الكلمات والأوصاف المتداولة.
الشاهد أن الأغنية لم تعد أو بالأصح لم تكن أصلاً إداة تطريبية فقط، وإنما هي مُوثّقٌ حقيقيٌّ يمكن من خلاله تحليل حركة المجتمع وأنماط حياته، وثقافته وتاريخه السياسي والفكري وطموحاته وآماله، لذلك قيل سابقاً “للتعرُّف وقياس حضارة أيِّ أمة ما عليك إلا الاستماع إلى موسيقاها وأغانيها”.