الخرطوم- سودانية 24
على نحو متوقع، تباينت مواقف ورؤى الأحزاب والقوى السياسية والثورية تجاه التسوية المزمع المضي نحوها بين المدنيين والعسكريين، التي يعتقد داعموها أنها ستفضي إلى إنهاء الانقلاب وتكوين حكومة تدير الفترة الانتقالية، وتصل بالبلاد إلى انتخابات حرة ونزيهة.
ففي الوقت الذي طرح فيه تحالف الحرية والتغيير “المجلس المركزي” رؤيته للحل السياسي “التسوية”، أبدت قوى داخله بقيادة البعثيين اعتراضها، بينما عد آخرون أنها محاولة لقطع طريق الثورة وإيجاد مخرج للجنة الأمنية للنظام البائد- المكون العسكري- التي ارتكبت الجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية من العقاب، بالإضافة إلى أنها تحمي مصالح الرأسمالية الطفيلية وقوى الإمبريالية التي تستعد لنهب موارد البلاد، أو كما قال الشيوعيون.
الموقف من التسوية، أو “الحل السياسي” بين قوى الثورة باعتباره إحدى الأدوات التي تقود إلى إسقاط/إنهاء إجراءات انقلاب 25 أكتوبر، كان على الدوام محل خلاف، إذ تمترس الكثيرون خلف رفضهم التسوية واستعاضوا عنها بالحراك الشعبي المقاوم في الشوارع وصولاً إلى الإضراب السياسي والعصيان المدني، بينما كانت قوى الحرية والتغيير تعلن أنها ضمن إحدى الأدوات الثلاث التي تتبعها لإنهاء الانقلاب “الحل السياسي والدعم الدولي والمقاومة الشعبية”.
ويبدو أن موقف “قحت” من التسوية/الحل السياسي وضعها في خانة اتهامات متواصلة، بدءاً من نعتها بالتضليل في استخدام المصطلح، حيث يرى البعض أنها تتحاشى ذكر “التفاوض أو التسوية” مباشرة، وتقدم خطاباً عن الحل السياسي أو العملية السياسية التي قد تشمل كما يقول هؤلاء كل أنواع الحراك السلمي الذي يدور الآن، مستندين إلى أن المشهد يتحرك وفقاً لعمليتين، إما عملية سياسية أو عملية عسكرية، بل يذهبون أبعد من ذلك ويعتقدون أن عدم ذكر التسوية بوصفها الحقيقي هو هزيمة للرؤية وقدرتها على إقناع الآخرين.
أسس ومبادئ إنهاء الانقلاب:
في الورقة التي قدمها، (الاثنين)، عن الأسس والمبادئ التي تفضي إلى إنهاء الانقلاب، استمات تحالف الحرية والتغيير في التأكيد بأن ما تم حتى الآن لا يعدو كونه تفاهمات واتصالات غير رسمية، وتسلّم ملاحظات من المكون العسكري حول مشروع الدستور الانتقالي، تدور حول طبيعة العلاقات المدنية – العسكرية أثناء الفترة الانتقالية، مبيناً أن هذه الرؤية المطروحة ستناقشها قوى الثورة وصولاً إلى موقف جمعي مشترك.
يشار إلى أن أهم النقاط التي ارتكزت عليها الحرية والتغيير للتسوية/ الحل السياسي، في رؤيتها، تدور حول إبعاد العسكر عن السلطة، وإصلاح المؤسسة العسكرية عبر حلّ الجيوش المتعددة، وتكوين جيش وطني موحد وفقاً لجداول زمنية يتم الاتفاق عليها، بالإضافة إلى أولوية معالجة الأزمة المعيشية، على أن تكون وزارة المالية مسؤولة مباشرة عن كل أموال الدولة، ومنع التجنيب والتهريب، كما اشترطت أن تكون الترتيبات الانتقالية والوصول إلى الانتخابات في مدة لا تتجاوز (24) شهراً، وتشدد مبادئ الحل السياسي أيضاً على إزالة تمكين نظام الثلاثين من يونيو مع تطوير مناهج عمل التفكيك.
كذلك، اعتماد هياكل للسلطة على نحو التالي: تكوين مجلس سيادة محدود وبصلاحيات تشريفية، مجلس وزراء من كفاءات مستقلة، رئيس الوزراء فيه يتم اختياره من قوى الثورة بالتشاور مع أطراف اتفاقية جوبا والقوى الموقعة على الإعلان السياسي والدستور الانتقالي، فضلاً عن تكوين مجلس للأمن والدفاع يعمل تحت رئيس الوزراء، ومجلس تشريعي يشمل قوى الثورة وأطراف السلام والقوى السياسية والمجتمعية والأجسام النقابية وأسر الشهداء والنازحين.
حصرت “قحت” أطراف العملية السياسية في قوى الثورة المناهضة للانقلاب، المتمثلة في قوى الحرية والتغيير والأحزاب السياسية ولجان المقاومة وتجمع المهنيين والمجتمع المدني الديمقراطي، بالإضافة إلى قوى الكفاح المسلح الموقعة على اتفاق سلام جوبا، التي ستحافظ كما تشير الرؤية على مستحقاتها التي أقرتها الاتفاقية، فضلاً عن قوى الانتقال التي وقعت على الإعلان السياسي وشاركت في وضع الدستور الانتقالي المطروح من قبل لجنة المحامين.
الرفض من الداخل:
في سياق موازٍ، كانت أعنف ردود الاعتراض على الرؤية قادمة من داخل التحالف، بالتحديد من حزب البعث العربي (الأصل)، الذي رفض في بيان أي حل لا يجتث الانقلاب من جذوره أو يعفي البرهان وشركاءه عن مسؤولية جرائهم، وقال إن الرؤية المطروحة فيما يتعلق بدعم الآلية الرباعية وتيسير العملية السياسية، لم تحدد ماهية الضمانات التي ستوفرها الآلية لعدم الانقضاض مرة أخرى على الاتفاق، كما أن مشروع الدستور الانتقالي المعد بواسطة لجنة المحامين ينبغي التوافق عليه من قبل قوى الثورة، ومن ضمنها قوى الحرية والتغيير، ومن ثم اعتماده المرجع الأساسي للعملية السياسية.
وأضاف البعث، إن الممارسة العملية لبعض قيادات الحرية والتغيير، غَلّبت دعم المجتمع الدولي والحل السياسي على الحراك الجماهيري، الذي لم تبذل في سبيله ما يستحقه باعتباره الأساس الذي بدونه لا فائدة ترجى من الآليات الأخرى.
وأوضح أنه لا يستقيم الحديث عن الحل السياسي أو تنعقد له الاجتماعات الطارئة كمثال لاجتماع، وبنادق الاستبداد توجه طلقاتها إلى المتظاهرين في الشوارع حتى الأمس، وسيف الاعتقال مسلط على قيادات الحرية والتغيير وشباب الانتفاضة.
وقرّع “البعث” الحرية والتغيير قائلاً: “إننا لا نجد تفسيراً لما تم والاستعجال فيه، سوى القول إن رهان البعض على أوهام الحل السياسي ودعم المجتمع الدولي هو المتحكم في ذهنية البعض، إذ لم يعد تنظيم وتصعيد وتنوع العمل الجماهيري بنداً في جدول أعمالهم، بل مجرد لافتة لا مكانة لها على أرض الواقع”.
وزاد: “إنهم يتجاهلون دروس تاريخنا في مقاومة الاستبداد، إذ لم يحدث طوال ذلك التاريخ أن تقدم الحل السياسي على الانتفاضة الشعبية”.
لا شك أن موقف حزب البعث الرافض للتسوية مقروناً بموقف الحركة الشعبية بقيادة عرمان، يعطي إشارات عن احتمالية حدوث انشقاق جديد في المجلس المركزي، وهو الأمر الذي نفاه بشدة متحدثو الحرية والتغيير في مؤتمرهم الصحفي اليوم، مشيرين إلى أن تلك الأصوات والمواقف مفهومة باعتبار طبيعة التحالف المتنوع والمتعدد الاتجاهات، وأكدوا أنهم سيمضون نحو إنهاء الانقلاب موحدين، وقال “خالد سلك”: “الذين ينتظرون في الضفة الأخرى جثة قوى الحرية والتغيير سيطول انتظارهم”.
الحل الجذري وإسقاط الانقلاب:
بالمقابل أو في الضفة الأخرى، كما ألمح “سلك”، يقف الحزب الشيوعي، الذي دعا في وقت سابق إلى ضرورة تفكيك تحالف “قحت”، يقف في مواجهة التسوية بصورة شرسة ويقدم بديلاً له الحل الجذري لإسقاط الانقلاب وتحقيق أهداف الثورة. وفي آخر موقف معلن له قال الحزب إن تسارع الخطى نحو التسوية يأتي نسبة لضغوط خارجية على العسكر وقوى الحرية والتغيير، على أساس الإعلان الدستوري للجنة المحامين المصمم من الخارج، ونوه إلى أن التصريحات حول التسوية ما زالت مضللة للجماهير وتختلف عن ما يجري تحت الطاولة، وقد كشف فولكر بيرتس بعض المستور عنها حين صرح بوجود اتفاق لفترة انتقالية لمدة عامين.
ويعتقد “الشيوعي” أن التسوية الحالية لا تخرج عن إعادة الشراكة، وهيمنة العسكر على السلطة، وحماية مصالح الرأسمالية الطفيلية ومصالح القوى الإمبريالية والإقليمية في نهب ثروات البلاد، وإيجاد مخرج للإفلات من العقاب، والاستمرار في محاولة قمع القوى الرافضة لها، وشدد على مواصلة المعركة حتى شحذ سلاح الإضراب السياسي والعصيان المدني لإسقاط الانقلاب وانتزاع الحكم المدني.
التسوية والمعركة القادمة:
ويلاحظ أن الصراع الدائر حول التسوية والمضي نحوها، يدور حتى اللحظة بشكل شرس بين قوى الثورة المناهضة لقرارات الجيش/الانقلاب.. وفي غضون ذلك ما زالت هناك معركة أخرى منتظرة مع الجانب أو الطرف الثاني المتمثل في المكون العسكري والحركات المسلحة والقوى السياسية المؤيدة لموقف الجيش في (25) أكتوبر من العام الماضي، التي من المفترض هي الأخرى أن يتم الانخراط معها في نقاش أوسع للوصول إلى حالة توافق أو تراضٍ عام.
لكن يقول مراقبون إن المعركة الأخرى محدودة ومقدور عليها استناداً إلى الضغط الذي يمكن أن تمارسه قوى المجتمع الدولي على الأطراف، ويستشهد أصحاب هذا الرأي بتحول موقف حاكم إقليم دارفور الأخير والقيادي بالتوافق الوطني، “مناوي”، الذي رحب برؤية قوى الحرية والتغيير الأخيرة وعدّها جهداً يستحق الاحترام.
أخيراً..
تجدر الإشارة كذلك، إلى أنه في الوقت الذي يدور فيه النقاش ويحتدم الجدل حول التسوية، هناك وسائل إعلام محلية وإقليمية ما زالت تنقل عن مصادرها وتؤكد إتمام الاتفاق، بل وتعلن أسماء المرشحين لمجلس السيادة ومنصب رئيس الوزراء، وتقول إن الظاهر الآن من تراجع قوى الحرية والتغيير أو إنكار “البرهان”، ما هو إلا تمويه لإخراج التسوية بصورة لائقة، وتحت عنوان التوافق وأوسع إجماع ممكن.