الخرطوم- سودانية 24
ثلاثة أعوام مضت على انتصار أبريل والإعلان عن سقوط نظام الانقاذ، لكن وقائع الأحداث تقول إن الشكوك التي كانت تحوم حول حقيقة انحياز قادة الجيش للتغيير، أصبحت شبه مؤكدة، بالنظر إلى انقلابهم الأخير على المكون المدني، ومحاولاتهم الحثيثة في تحجيم الحراك والقمع المفرط للفاعلين فيه، ولعل ما زاد من صِدقية تلك الظنون، الخطوات الأخيرة التي قامت بها السلطة الانقلابية بإعادة الفلول إلى مؤسسات الدولة وإطلاق بعض قياداتهم من السجون، الأمر الذي يفتح بالمقابل الباب واسعاً لتحليل طبيعة التحالف الحاكم الآن، بالإضافة إلى تساؤلات أخرى حول حجم الدعم الذي يمكن أن يقدمه عناصر النظام المباد ـ في حال صعودهم إلى السطح ـ فضلاً عن ماهية التأثيرات المتوقعة على المستوى الداخلي والإقليمي.
وكانت السلطات الانقلابية والقضائية قد أطلقت خلال الأيام القليلة الماضية، عدداً من رموز النظام البائد من الحراسات والسجون، كما قامت منذ بداية الانقلاب بتجميد عمل لجنة إزالة التمكين، وفك حظر الحسابات التي كانت تتبع لجهات وأشخاص ذوي ارتباط بالعهد البائد وتدور حولهم شبهات فاسد، بالإضافة إلى إرجاع أغلب العاملين الذين أوقفتهم لجنة التفكيك للعمل بأجهزة الدولة مرةً أخرى.
ويشار إلى أنه ومنذ الساعات الأولى لإعلان قادة الجيش بالانحياز للشعب والجموع المعتصمة أمام أبواب القيادة العامة للقوات المسلحة والحاميات العسكرية بالولايات، حذر بعض المتابعين من تلك الخطوة واعتبروها امتداداً لحكم الجبهة الإسلامية لكن بوجوه جديدة، منوهين إلى ذاكرة التاريخ وسيرة الإنقاذ التي تخفَّت في أعوامها الأولى خلف رأية الضباط الأحرار.
في الفترة الانتقالية الماضية –أيضاً- ثمة من كان يُحذّر بأن هناك تحالفاً خفياً وتنسيقاً بين العسكر وبعض قيادات الإسلاميين، بهدف القيام بثورة مضادة وتعطيل مسار التغيير.
الشراكة والرومانسية السياسية:
مشروع إفشال مشروع الانتقال الديمقراطي والتآمر على الثورة والديمقراطية المرتجاة، بدأ في ١١ أبريل ٢٠١٩م، هكذا يقول القياديُّ بتحالفِ القوى المدنية ووزير التجارة الأسبق مدني عباس مدني، ويضيف “بعد ثلاث سنوات نحتاج لإعادة تفسير ما حدث بشكل منطقي لا رغبوي، الشراكة والرومانسية السياسية التي ظلَّلتنا وكنا جزءاً منها لا يمكن أن نواصل أسيرين لها”.
ويعتقد “مدني” أن انقلاب ٢٥ أكتوبر دشن (الإنقاذ 2) المكونة من المتأسلمين، وقيادات عسكرية ذات طموح سياسي واقتصادي، بالإضافة إلى مجموعات غنائمية، وحركات مسلحة، وساسة ضالين أخلدوا إلى الأرض وكانت طموحات شعبهم في السماء، ويزيد بأن هذه المجموعات التي وصفها بـ”الرثة” يساعد تحالفٌ إقليميٌّ تختلف أهدافه، ويجمع بينهم عدم رغبتهم في نجاح نموذج ديمقراطي، وفشله المتكرر في قراءة الواقع السوداني.
ويشدد “مدني” على أن الاستهتار بالانقلاب لا يبدو واقعياً، ويقول بحسب منشور له على صفحته بـ”فيسبوك” إن التآمر والكيد تجاه ثورة الشعب السوداني كبير ومقيت، وأن مَنْ قادوا الانقلاب لا يبحثون عن مخرج آمن، مشيراً إلى أن أيَّ حديث بهذا الصدد يعتبر فرية ليس إلا، هم كما يقول يبحثون عن التمدد ولا يغافلهم أيُّ أحساس بالندم والورطة، مشيراً إلى ضرورة التعامل مع هذه الحقيقة وعدم الاستغراق في تصور ضعفهم مع بذل المزيد من الجهد ووضوح الرؤية لتحقيق الانتصار عليهم.
صفقات وعمل مشترك:
على ذات النسق، يمضي الصحفي ماجد محمد علي قائلاً: “المشهد في أبريل هذا ينذر بإعادة موضعة النظام البائد وحزبه في الساحة السياسة والمرحلة الانتقالية ككل من قبل المجلس الانقلابي، وهذا بهدف العمل المشترك من أجل تصفية برنامج ثورة 19 ديسمبر والقضاء على قواها”.
وقال: “ما نشهده الآن من عودة فلول النظام البائد بشكل متسارع للتمركز في مفاصل مؤسسات الدولة وكافة الأجهزة، دليلٌ على أن الثورة المضادة حقّقت في ظلِّ الخلافات والانقسام بين قوى الثورة ما لم تكن تتوقع حتى تحقيق نصفه”.
وأضاف: “كان المؤمل أن يتاح لفلول النظام البائد المشاركة في الانتخابات القادمة، طبعاً بعد حظرهم من العمل في الانتقالية، الآن هم يعودون إلى مواقعهم القديمة بوتيرة متسارعة”.
ويعتقد “ماجد محمد علي” أن هناك صفقة قد جرت بين الطرفين، مضمونها تبادل الدعم والعمل المشترك ضدَّ قوى الثورة، وقد يكون وراء تسريع تنفيذ هذه الصفقة نية الانقلاب إعلان حكومة وبرلمان، لافتاً إلى أنها خطوة ستواجه برفض أوسع من قوى الشارع الذي يقاوم الانقلاب منذ أكتوبر الماضي.
وإلى ذلك، يرى أن تغلغل الفلول من جديد في مؤسسات الدولة وأجهزتها، بجانب الإفراج عن الأموال والأرصدة المجمدة وعودة مؤسساتهم في المجتمع للعمل، سيشكل تحديات لقوى الثورة بالتأكيد، لكن إعادة التأريخ أمر يكاد يكون مستحيلاً، فالشارع الذي لفظهم بعد حكم وتمكين عقود ما زال موجوداً، ولن يسمح لهم بالتمدد.
ويضيف: “من ناحية أخرى، فإن التكوينات المتحالفة لدعم الانقلاب ذات ولاءات وتحالفات خارجية مختلفة، ولدى أغلبها تاريخ من القطيعة مع الفلول مثل الحركات المسلحة، ما سيزيد من التناقضات داخل معسكر الانقلاب وربما يؤدى إلى انفجاره”.
دعم عناصر النظام المباد للانقلاب:
ومن جانبه، يقول القيادي بقوى الحرية والتغيير مجدي عبد القيوم، إن الثورة المضادة لم تتوقف حتى عند ذروة نجاح ثورة ديسمبر واشتعال جذوتها، ودونك جريمة فضّ الاعتصام والتي هدفت لإطفاء شعلة الثورة وليس مجرّد اغتيال معتصمين عزل، مشيراً إلى أن الفكرة الجوهرية هي أن الاعتصام شكل بؤرة ثورية بمفهوم الثورة، وبالتالي عملت الثورة المضادة على إنهاء هذه البؤرة حتى لا ينداح فعلها الثوري ويتجذر اجتماعياً، وأكد أن أيَّ ثورة فى التاريخ البشري تعارضها ثورة مضادة وبالتالي المحددات التي تتحكم في غلبة أيِّ منهما هو ميزان القوى بمعناه المطلق بمعنى الذاتي والموضوعي والعوامل الداخلية والخارجية.
ويمضي “عبد القيوم” في القول، “السؤال وفقاً لما تقدم كيف استطاعت الثورة المضادة الحد من اندفاع الثورة أو قدرتها على تحقيق أهدافها؟ وهنا ينبغي أن تستصحب العامل الذاتي المتصل بالثورة وهل ثمة أخطاء أو فشل تكتيكات أو هل هي إشكالية قيادة أم اختلاف حول الأهداف أو حتى الأولويات، أما العامل الموضوعي فهو متصل مثلاً بالمحيط الإقليمي وتأثيره وكذلك الدولي”.
قال “عبد القيوم”: الشاهد أن الثورة المضادة سجلت نجاحاً لحدٍّ ما في إيقاف عجلة الثورة لأنها استفادت من عدة أخطاء لقوى الثورة نفسها وإعادة ترتيب صفوفها بما في ذلك تحالفاتها، لذلك بدأ ما يُسمون بـ”الفلول” في الظهور على المسرح السياسي، مبيناً أن هذا يعود إلى انسحاب قوى الثورة من الفعل السياسي كبرنامج عمل والاكتفاء بالفعل التحريضي، وكان الأحرى هنا على الأقل أن يكون هناك تلازم بين الفعلين، ويتابع: “الثورة أخلت الساحة فملأت فراغها الثورة المضادة”.
أما عن مسألة حجم الدعم الذي يمكن أن يقدمه عناصر النظام المباد للسلطة القائمة، يقول “عبد القيوم”، الفلول ليسوا إسلاميين كلهم بل ربما أغلبهم يمكن إدراجهم في عداد الانتهازيين، سيما المجموعات التي يربط بينها رأس المال، لذلك من الممكن يملأوا الفراغ السياسي وبالتالي يكونوا أكثر تأثيراً في صناعة المشهد، خاصة فيما يتصل بجهاز الدولة البيروقراطي أو الخدمة المدنية.
عودة الفلول وتأثيراته الإقليمية والدولية:
الواضح أن عودة عناصر النظام المباد والقيام بأدوار محورية في المشهد السوداني، ستكون لها تأثيرات على المستوى الإقليمي والدولي، هناك بعض المراقبين يقولون إن ظهور الفلول وتحكُّمهم في مفاصل الدولة من جديد قد يعيد البلاد إلى مربع العزلة الاقتصادية والدبلوماسية على المحيط الدولي، لكن بالمقابل هناك مَنْ يُشكّك في هذه الفرضية باعتبار أن العالم يتحرك حسب مصالحه فقط، لا شكل الآيديولوجيا.
الصحفي “ماجد محمد علي” يقول “الغرب عموماً داعم للثورة وبرنامجها، وهو دعم مبدئي لا يوجد ما يبرر التشكيك فيه، لذلك سيكون حريصاً على أن لا يشاركوا خلال المرحلة الانتقالية، وأن لا يعملوا على إعاقتها. أما دول الإقليم فقد دعمت مسبقاً الانقلاب، ولا يستبعد أن تدعم أيّ صيغة تحافظ على ما تراه مصالح لها في السودان”.
بينما قال “مجدي عبد القيوم”، إن هناك تقاطعات بينية فيما يتصل بسياسات دول الإقليم مع أن الوجهة العامة هي رفض الفلول، إذا قلنا إن هذا المصطلح مرادف للإسلاميين بالنسبة للمجتمع الدولي، فإن الحبل السري بينه والإسلاميين على إطلاق عموم اللفظ ممتد ولن ينقطع بالنظر للعلاقة الجينية بين التنظيم الدولي للإسلاميين وأجهزة المخابرات الغربية، وبالتالي يمكن إيجاد تفاهمات بينهما.
وعلق على حديث مدير شرطة دبي الأسبق “ضاحي خلفان” ـ معروف بموقفه المتشدد من الإسلاميين ـ والذي عزا عودة الفلول للظهور في إطار مناورات البرهان وتكتيكاته لفك العزلة عن نظامه، وقال “عبد القيوم”: “في تقديري أن ذلك ليس دقيقاً فهذا التكتيك المخابراتي استخدم مثلاً أيام السادات كترياق مضاد للحالة الثورية وربما عنى قادة الانقلاب هذا وذاك”.
وجزم القيادي بالحرية والتغيير، أن المشهد السوداني لا يتشكل فقط وفقاً المشهد الداخلي فالمُعطى الخارجي يسهم بنسبة ربما تتجاوز الـ٨٠% في إعادة ترتيبه وفقاً لاستراتيجيات الصراع العالمي المحتدم.