الخرطوم: محمد الاقرع
لكل منتج ما مدة زمنية يستنفد فيها صلاحيته ويؤدي أغراضه، والتعاطي معه بعد انتهاء المدة المحددة قد يقود إلى نتائج كارثية، مما يستدعي في بعض الأحايين تدخلات السلطة مدفوعة بضغوط من جمعيات وروابط حماية المستهلك، فهل يصح لنا بدءاً طرح تساؤل أولي عن وجود فترة زمنية تنتهي بها صلاحية العمل أو المنتوج الفني بمختلف فروعه وتقسيماته (شعر، غناء، رواية، مسرحية، لوحة… ألخ)، أسوةً ببقية المنتجات الاستهلاكية الأخرى؟ وإذا كان الجواب نعم، فما هي الكيفية التي تحسب من خلالها المدة؟ وهل توجد جهة مخول لها مصادرة التالف من الأعمال الفنية؟ بالإضافة إلى ماهية طرق الإبادة والتخلص من المنتوج الفني الفاسد..؟
ثمة من يرفض مجرد فكرة المقارنة بين المنجزات الأدبية والمنتجات الاستهلاكية الأخرى (البصل، الزيت، المشروبات الغازية… ألخ)، ويستند في ذلك إلى أن الأعمال الفنية هي في الأساس غذاء للروح بينما المنتجات الاستهلاكية هي غذاء للجسد، وشتان ما بين الاثنين. ويعتقد هؤلاء أن الفنون خلقت لتبقى فهي تفلت من كمائن النسيان والصلاحية.
أما الرأي الآخر الذي لا يرى غضاضة ويطالب بوجوب تحديد مدة زمن الصلاحية، يقرُّ في نفس الوقت بخصوصية العمل الفني ولكن يؤكد مدى خطورة تناوله (متخمراً)، أو كما وصف أحد المناصرين للفكرة وهو الأستاذ عبد الجليل صديق الذي يرى أن العمل الفني لديه مدة زمنية محددة يَرُوجُ فيها ويؤدي غرضه سواء كان ترفيهاً تطريباً أو توعوياً رسالياً، وبعد تلك المدة يتخمر ويصبح غير قابل للتفاعل ـ الالتهام والهضم ـ معللاً ذلك بأن العمل الفني هو عكس للمشكلات وأحاسيس مجتمع ما في فترة زمنية محددة، إذا انتفت أو تطورت يحول فنها إلى المتاحف للفرجة والتباكي على التاريخ، واستقاء الحكمة باعتباره موروثاً ثقافياً ليس إلا.
“أمنية علي” ـ طالبة ماجستير في النقد الفني ـ لديها رأي مشابه ولكن مع اختلافات بسيطة فهي تُقرُّ مسألة التحديد ولكن تشترط وتربط ذلك بعملية تفكيك تتم على العمل الفني لمعرفة جودته أولاً وليست عملية إعدامية عمومية على كلِّ المنجزات الأدبية بحسب أنها أتت من جيل تلاشى. تقول أمنية إن الفنون هي مزيج من الأفكار والصور والأخيلة التي قد يصلح بعضها لكل زمان ومكان، فما زال الناس إلى الآن مثلاً يتفاعلون مع أشعار الجاهلية الأولى ورسمات (دافنشي) ومسرحيات (شكسبير) وذلك لأنها ارتهنت في طرحها إلى القضايا الإنسانية الأزلية التي لا تنفك عن أي مجتمع مثل (الحرية، السلام، العدالة)، بالإضافة الحب والجمال، وفي الجمال ترى الجمال الروحي وليس التضاريس الجسدية التي قد تختلف تصوراتها من جيل إلى آخر أو من مجموعة سكانية لأخرى.
بحسب “أمنية” تفكيك العمل الفني يكشف لنا أن هنالك أعمالاً فنية مدة صلاحيتها لا تتجاوز لحظة ميلادها، فهي تخرج كسيحة وفطيرة ومشوهة ولا يكتب لها الاستمرارية، وتستدل بالأغنيات الهابطة التي تظهر على سطح الساحة الغنائية كفقاعات سرعان ما تختفي وتذوب.
يرى بعض النقاد أن هنالك عوامل أخرى محددة في صلاحية تداول العمل الفني، منها المباشرة المربوطة بلغة أو تجسيد لشخوص أو حقبة زمنية محددة. ويشير المراقبون إلى أن اللجوء إلى الرمزية قد يضمن سعة زمانية أطول لاعتبار التأويلات المختلفة التي يستوعبها العمل.
ومن المحددات أيضاً المشار إليها، حركة التطور التكنولوجي والعلمي التي قد تلغي في بعض الأحيان أساليب كانت متبعة في مجتمع ما، يستوحي منه المبدعون بعض الصور مثل إرسال الرسائل بالحمام الزاجل وتشبيه الجميلات بـ(القمر) الذي أثبتت الحقائق العلمية أنه مجرد كوكب عاكس لضوء الشمس تكسوه الصخور.
مَنْ يصادر..؟
في المنتجات الاستهلاكية منتهية الصلاحية قد تتدخل السلطات ممثلة في مسؤول الصحة للمصادرة والمحاكمة، أما في المُنتجُ الفني، يقول الأستاذ “عبد الجليل صديق” إن أمر المصادرة وعدم التعاطي متروك للمجتمع أو للفرد تحديداً، وإذا كان العمل من الأساس قد وجد قبولاً أولياً والتفاعل معه دون اعتراضات سابقة، بعد ذلك غطت عليه عملية التطور الزمني في تغيير المفاهيم وعدم وجود تصورات تفسيرية في عقول جيل ما بعد الحداثة، بالإضافة إلى تعرية العمل الفني من الصحة العلمية، أما إذا كان العمل الفني منذ ميلاده مشوهاً مثل (أعمال فنية تحفز على العنصرية، مسرحيات تناصر الشرَّ والعنف وتعتبر السلام جُبناً… ألخ) أو تكون نابعة من مجموعات تختلف قيمها عن مجتمعٍ ما مثل أعمال (تؤيد المثلية الجنسية) في مجتمع محافظ، هنا يمكن للرقابة التدخل.
طرق الإبادة..؟
المنتجات الاستهلاكية الفاسدة التخلص منها دائماً يتم ـ في الأوضاع الصحيحة طبعاً ـ عبر حرقها أو رميها في أماكن بعيدة عن متناول الجوعى والجاهلين، أما المنجزات الفنية، تقول “أمنية علي”: (جميعها صاعد وهابط يمثل توثيقاً لحقبة زمنية محددة مرت بها البشرية أو المجموعة السكانية في مكان معين والتخلص منها يتم عن طريق الحفظ في المكتبات والمتاحف وذواكر التحفظ، فهي تفتح أبواباً أخرى لإعادة قراءة التاريخ).