الخرطوم- محمد الأقرع
يصادف، اليوم، الموافق الحادي عشر من أبريل، ميقاتاً خاصاً لدى السودانيين للاحتفاءِ والمذاكرةِ السياسيةِ، فهو يمثّلُ ذكرى سقوطَ نظامِ البشيرِ، وانتصارَ الثورةِ في العامِ 2019م بعد حراكٍ ثوريٍّ متعدّدِ الأدواتِ ومرتفعِ التكلفةِ بالنظرِ إلى عددِ الضحايا وسوءِ المآلات.
قبل أربعة أعوام، استيقظ السودانيون على صباح جديد، فقد أثمرت جهودهم المتواصلة والمتوجة باعتصام القيادة العامة للقوات المسلحة في إسقاط نظام الجبهة الإسلامية، الذي انقلب على السلطة الديمقراطية في يونيو 1989م واستمر لثلاثين عاماً عاش خلالها الشعب السوداني ويلات الحروب، والقمع والتنكيل وضيق الحريات والضوائق المعيشية والاقتصادية.
كانت شعارات الثورة تنادي بالحرية والسلام والعدالة، وأبصر الناس أفقاً جديداً، وأطلقوا آمالهم المشروعة في الانتقال والتحول الديمقراطي ودولة المواطنة، لكن سرعان ما بدد أحلامهم انقلاب عسكري جديد، أعادهم إلى المواجهة مرة أخرى وأعاد البلاد إلى مربع العزلة الدولية.
وفقاً لمراقبين، فإن انقلاب “البرهان” في 21 أكتوبر 2021، قطع الطريق على حكومة “حمدوك” وما كان يمكن أن تقوم به في ملفات الانتقال، أهمها الملف الاقتصادي عبر إلغاء العقوبات المفروضة على السودان وإعفاء الديون وفتح الباب للاستثمار الأجنبي، كما أنه أعاد نفس سياسة النظام البائد في قمع الحريات، وتمثل ذلك بصورة جلية في التصدي العنيف للاحتجاجات المناوئة له، ما تسبب في مقتل العشرات وإصابة الآلاف.
“البرهان” الذي تحالف مع الدعم السريع وبعض مليشيات دارفور المسلحة، خرج في بيانه العسكري الأول وقال إن خطوته تأتي في مسار تصحيح الثورة التي أضاعتها قوى الحرية والتغيير بالتمكين والخلاف، ووعد بتشكيل حكومة تنفيذية جديدة وكل هياكل الحكم الأخرى في أسبوع، ولكن لم يحدث ذلك، والآن مضى نحو عام ونصف العام والبلاد من غير حكومة في ظل تردٍّ اقتصادي مريع.
يشار أن ما قام به “البرهان” من انقلاب على الحكومة المدنية، أكد كثيراً من الشكوك التي كانت تحوم حول حقيقة انحياز قادة الجيش للتغيير، خاصة في ظل القمع المفرط الذي قوبلت به الاحتجاجات، والخطوات المتصلة بإعادة الفلول إلى مؤسسات الدولة وإطلاق سراح بعض قياداتهم من السجون.
وفي السياق، يقول البعض إن مشروع إفشال الانتقال الديمقراطي والتآمر على الثورة في السودان، بدأ منذ 11 أبريل 2019م من قبل الثورة المضادة التي لم يتوقف سعيها التخريبي حتى في ذروة نجاح ثورة ديسمبر واشتعال جذوتها، ويستدل هؤلاء بما حدث في مجزرة فض اعتصام القيادة العامة التي هدفت إلى إطفاء شعلة الثورة.
ويقولون إن عودة فلول النظام البائد بشكل متسارع بعد الانقلاب والتمركز في مفاصل مؤسسات الدولة والأجهزة كافة، دليل آخر على أن الثورة المضادة حققت في ظل الخلافات والانقسام بين قوى الثورة ما لم تكن تتوقع حتى تحقيق نصفه.
ما الذي تحقق؟
بعد أربعة أعوام من انتصار أبريل، يلاحظ المتابع للمشهد السوداني، أن هناك انقساماً حاداً وسط قوى الثورة، وبالتحديد بدأ الانقسام قبل قيام الانقلاب، حيث رأت بعض القوى أن الحكومة المدنية وحاضنتها السياسية وقتها انصرفت عن تأسيس مؤسسات الانتقال وتحقيق أهداف الثورة إلى إعادة تمكين جديد، وتطبيق سياسات اقتصادية زادت من سوء الأوضاع المعيشية ومهدت لنهب موارد البلاد.
هذا الانقسام تجذّر بشكل أكبر بعد الانقلاب وفي أدوات التعامل معه، إذ اختارت قوى الحرية والتغيير وبعض القوى المدنية، التسوية السياسية كحل لإنهاء الانقلاب واستعادة المسار الديمقراطي، بينما تمسكت لجان المقاومة وكيانات مهنية وبعض الأحزاب مثل الحزب الشيوعي بالحل الجذري لمواجهة الانقلاب، وهذا “الفرز” خلق حالة استقطاب حادة وصلت مراحل التخوين والاغتيالات المعنوية.
“الحريات التي أتاحت هذا الحوار العام بين السودانيين كافة هي أبرز ما حققته ثورة ديسمبر المجيدة بعد أربعة أعوم من اشتعالها”.. هكذا قال الصحفي ياسر جبارة، وأضاف: “الآن نسمع أصوات المثقفين والمفكرين والمبدعين يقدمون رؤاهم حول مستقبل البلاد.. دائرة الحوار اتسعت وما زالت، وهذا اليقين بضرورة النقد والتمحيص لكل ما هو مطروح على مستوى الساحة، والسبب ربما هو إفراط السياسيين في الخذلان”.
وبيّن “جبارة” أن الحريات تعرضت لاختبار المصادرة منذ فض اعتصام القيادة العامة للجيش، واحتلال الجنجويد للعاصمة الخرطوم بحد البندقية والسوط، ومحاولات كسر إرادة الشباب بأساليب دنيئة، وكذلك محاولات المصادرة التي جرت بعد انقلاب “25 أكتوبر”، لكنها محاولات كما يقول “منيت بالهزيمة.. هزمت بعزم وتصميم الثورة”.
أما عن مستقبل انتصار الثورة المضادة وعودة النظام السابق، فقد قال: “النظام السابق له مداخل معبدة عبر شرايين شهوات السلطة لدى القيادة السياسية في تحالف الحرية والتغيير، لكن المدخل الرئيس يتمثل في انفراط عقد قوى الثورة وتفريق صفهم بمعول التخوين واتهام المخالفين، وهذه أدوات صدئة من أدوات النظام السابق”.
وأضاف: “لا يمكن تحقيق تحول ديمقراطي بأدوات شمولية.. ثلاثة عقود من عمر نظام الإنقاذ تركت تأثيراً قوياً على البنية التنظيمية للقوى السياسية وهي بحاجة ملحة للتغيير في طبيعة هذه البنية المرتابة بشيء من قوة ورحابة وشجاعة الثورة”.
لا يرى الصحفي ياسر جبارة أن هناك مصيراً مبشراً لقوى الثورة على المدى القريب، كذلك يصف شروط التأسيس الديمقراطي بالضعف، مبيناً أن أكثر ما يضعفها الانقسامات التي تنشأ بسبب الرغبة في السيطرة على آليات اتخاذ القرار.
فاعلية الشارع
أما الناشط السياسي محمد أنور، فيرى أن فاعلية الشارع السوداني هي أكبر ما تحقق خلال الأربعة أعوام من عمر الثورة، مبيناً أن الشارع تحول من موقع المتفرج الذي تمرر فيه السياسات إلى فاعل رئيس لا يمكن تجاوزه.
ويقول “أنور” وهو المتحدث السابق للجان المقاومة، إن المقارنة بين أهداف الثورة والتغيير التي خرج لها الناس وما تم فعلياً على أرض الواقع قد تكون بعيدة، وفي بعض الأحيان عكسية لكننا في مرحلة تحول كبرى”.
وأشار إلى أن تقسيم مسؤولية تخريب الانتقال على أساس المدنيين والعسكريين ليس دقيقاً، لأن هناك معسكرات مختلفة وبأهداف متباينة، يضم كل واحد من هذه المعسكرات بين جنباته عسكريين ومدنيين.
وأضاف: “لا شك أن هناك مخرباً رئيساً للانتقال، ويبدو متجلياً في الانقلاب ومن قام به وسانده، لكن هذا لا يلغي أن تكون هناك سياسات خاطئة من الجميع بدرجات متفاوتة، أثرت في تحقيق أهداف الانتقال ونقلت الصراع إلى داخل قوى الثورة والتغيير”.
وحول حراك عناصر النظام البائد قال “أنور”: “اختار النظام البائد الطرق الخاطئة لمحاولة العودة، لأنهم لا يحترمون إرادة الملايين الذين نزلوا الشارع لإسقاط تجربة الكيزان ومن تحالف معهم”.
ويعتقد أن عناصر النظام البائد غير مهتمين بتقديم نقد لتجربتهم، فهم منشغلون فقط بالتآمر عبر الخطاب الجهوي أحياناً والأزمات الاقتصادية أو تأثيرهم المعروف للجميع على أجهزة الدولة المدنية والعسكرية، لافتاً إلى أن هذا الطريق خاطئ وسيرتد على الفلول مستقبلاً.
وأكد أن الثورة لا خوف عليها، وأن الوعي المتحرك المتنامي مصحوباً بإرادة الشعب، خاصة الشباب، سيجعلها دوماً حية ومتقدة.