الخرطوم-محمد الأقرع
أحداث مأساوية، شهدتها عدة مناطق ومحليات بإقليم النيل الأزرق، أدت إلى مقتل العشرات وإصابة المئات ونزوح الآلاف من المواطنين جراء صراع إثني بين مجموعات قبلية تسكن المنطقة.
ووفقاً لشهود عيان تحدثوا إلى “سودانية 24″، فقد تعرض، اليوم (الأحد)، تجمع لأهالي بالسوق الشعبي كانوا يستعدون لمغادرة المدينة- أغلبهم من النساء والأطفال- إلى هجوم من بعض المجموعات السكانية الأخرى، قبل أن تتدخل القوات الأمنية وتفرض سيطرتها على الأوضاع.
إلى ذلك، كشفت وزارة الصحة بإقليم النيل الأزرق أن عدد القتلى حتى صباح اليوم (الأحد)، بلغ (65) قتيلاً، بالإضافة إلى أكثر من (190) جريحاً.
وقال وزير الصحة بالإقليم في تصريحات لصحيفة “السوداني”، إن الوضع الصحي بمستشفى الدمازين التعليمي مزرٍ، وقد تراكمت جثامين أطراف النزاع، التي لم يتم التعرف عليها حتى الآن، في ظل امتلاء مشرحة المستشفى.
وفي الأثناء، استمرت اليوم حركة نزوح واسعة بالإقليم خاصة من منطقتي قنيص والروصيرص إلى الدمازين وولاية سنار المجاورة. ويأتي ذلك في وقت أطلقت فيه لجان المقاومة ومنظمات مجتمع مدني نداءات ومناشدات لتقديم المعونات للنازحين وضحايا الأحداث في مناطق التجمعات المختلفة.
وحسب المتابعات، وقع الاقتتال بين مجموعات تنتمي إلى إثنية الفونج (البرتا والهمج وغيرهما) من جانب ومجموعات تنتمي إلى قبيلة (الهوسا) من جانب آخر، وجاء ذلك على خلفية صراع الأرض والنفوذ.
وبالتحديد كانت قد اندلعت شرارة الصراع بسبب مقتل شخص في منطقة “أداسي” بمحلية قيسان غرب النيل الأزرق، لينتقل القتال بعدها إلى شرق الولاية عند المدينة (7) التابعة لمحلية ود الماحي، ثم تحول (الجمعة) إلى منطقة قنيص بمحلية الروصيرص، لكن مراقبين يقولون إن جوهر الأزمة يتمثل في قضية الأرض وصراع الموارد، خاصة بعد أن طالبت مجموعات من (الهوسا) بحقها في تكوين إمارة خاصة بها، الأمر الذي رفضته المجموعات الأخرى.
وانتقد المراقبون، كذلك، قصور القوات النظامية في التعامل مع الأزمة، وعدَّه بعضهم سبباً رئيساً في تكرار الاقتتال ذي الطابع القبلي بالسودان، وقالوا إن أحداث النيل الأزرق طيلة اليومين الماضيين لوحظ فيها غياب بائن للأجهزة الأمنية عن حماية الأهالي والفصل بين المشتبكين.
يذكر أن السلطات الأمنية أعلنت أمس الأول حظر التجوال الليلي- من الساعة السادسة مساءً حتى السادسة صباحاً- كما منعت التجمعات والمواكب، ومساء أمس نزلت إلى شوارع مدينة الدمازين والمناطق التي شهدت الاشتباكات قوات كبيرة من الجيش أعادت إلى حد ما الهدوء بالإقليم.
ومنذ فترة، تتجدد الصراعات ذات الطابع القبلي بالبلاد، فقد عاشت ولايات دارفور وشرق السودان وقائع مشابهة، ويقول متابعون إن هذا النوع من الصراع موجود ولديه عدة أشكال منها المسلح والسلمي والخفي، وإن الأسباب تتركز في الموارد والأرض والتهميش وغياب التنمية المتوازنة، بالإضافة إلى عدم الاندماج بين المكونات الإثنية بالشكل المطلوب.
ويعتقدون أن من العوامل المساعدة التي أدت إلى تجدد النزاعات ذات الخلفيات العرقية، شدة الضائقة المعيشية التي يتم استغلالها من البعض، كذلك ضعف السلطات القائمة وعدم دراية مسؤوليها بالتعقيدات الإثنية في السودان، بالإضافة إلى غياب الأجهزة الأمنية وتآمرها وعدم قيامها بالمهام المنوطة بها.
ويقول الكاتب، المهتم بقضايا المجتمعات السودانية، محمد علي مهلة، إن أحداث الصدام والقتل والتشريد بالنيل الأزرق، ببعض مناطق محليات الدمازين، الروصيرص وقيسان، بين بعض مجموعات الفونج من البرتا والهمج وغيرهما ومجموعة الهوسا، هي صدامات مؤسفة لمجتمعات منهكة، في إقليم يعاني من ثِقل وطأة الحرمان التنموي عبر السياسات المجحفة والحرب الأهلية المستمرة لأكثر من ثلاثة عقود.
ويعزو أسباب الصدام والصراع إلى مسائل جوهرية رئيسة، لم يتم وضعها في إطار سليم لمشروع وطني متوافق عليه يعمل على معالجتها، مثل ملكية واستخدام وتوزيع الأراضي وتأثيرها على المجتمعات المحلية ذات الملكيات الجماعية القبلية بالنيل الأزرق وغيرها من مناطق السودان، بالإضافة إلى حقوق المواطنة المتساوية، فضلاً عن المشاركة السياسية والمنصات أو المؤسسات التي تنطلق منها المجتمعات للتعبير عن تطلعاتها السياسية، الاجتماعية والاقتصادية إذا كانت إدارات أهلية قبلية أو تنظيمات مطلبية، حركات مسلحة وأحزاباً سياسية.
ويمضي “مهلة” بالقول: “في قضية استخدامات الأرض نجد أن بعض مجتمعات الفونج لديها غبن كبير من سياسات نزع أراضيهم الجماعية، التي تزايدت وتفاقمت منذ عهد نظام نميري فيما عرف بالتوسع في الزراعة الآلية بمناطق النيل الأزرق، لمصلحة شركات الاستثمار التي استحوذت على مجموع (مليونين و35 ألف فدان) من أراضي المجتمعات المحلية والشركات هي: شركة الدمازين للإنتاج الزراعي، الشركة السودانية المصرية للتكامل، شركة الأمان، شركة الوادي الأخضر، شركة نرياد، شركة الوفي، وهذه الشركات استثمرت (16%) من المساحة التي حازت عليها، أضف إليها شركات التعدين وسياسة نظام الإنقاذ في الهندسة الاجتماعية الملازمة للحرب بالتمليش والتجييش الذي ارتكز على المجموعات غير الفونجية، فيما سموه محاربة المتمردين”.
ويتابع: “لذلك فمن المؤكد أن قضية ملكية واستخدامات الأرض جزء من الوعي الرئيس لمجتمعات الفونج، لأن سياسات النهب المركزية عامل رئيس في تشكيل هذا الوعي الذي يمكن أن يستخدم في المعالجات والإنصاف والحلول أو الصراعات، وفقاً للواقع والفاعلين الرئيسين وتوجهاتهم”.
وفي السياق، يشير “مهلة” إلى أن هناك إشكالاً في بنية المؤسسات التي تنطلق منها المجتمعات لنيل تطلعاتها، فمؤسسات الإدارة الأهلية انحرفت عن أدوارها الرئيسة وأصبحت بؤرة للنزاعات والتجييش، كما أن الحركات المسلحة تعاني من اختلال في بنيتها المحصورة إثنياً.
وبالتوازي، فتحت أحداث النيل الأزرق جبهة انتقادات واسعة تجاه اتفاقية جوبا، إذ رأى البعض أنها لم تحقق السلام المنشود على الأرض، وقال الحزب الشيوعي “جنوب النيل الأزرق” في بيان أصدره أمس (السبت)، إن الاتفاق لم تخدم قضية السلام ولم تعمل على حل المشاكل بشكل جذري، وتناسى شركاؤه أصل الصراع حول الأرض وقضايا الثروة والسلطة والموارد، وإنما فتح الباب لتوزيع كيكة السلطة على من شارك في الحوار المزعوم كما وصفه البيان.
وقال “الشيوعي”، إن الصراع في النيل الأزرق ظل يأخذ شكل الاستقطاب الحاد الذي ظلت تمارسه الحركة الشعبية جناح مالك عقار، مستميلة بعض المكونات القبلية وآخرها قبيلة “الهوسا” التي كان نصيبها إمارة لأهلها لتلحق بركب المؤيدين لمالك عقار وحركته، التي ما قامت بهذا الفعل إلا بدافع حشد المناصرين.
وجزم البيان، بأن اتفاقية جوبا فتحت الباب للحرب والصراع وضرب النسيج الاجتماعي لمكونات الشعب السوداني.